ماستيقظ في الصباح كعادته مبكرا، اغتسل وأدى صلاته المعتادة، لبس ملابسهالتي اعتاد لبسها عند ذهابه إلى الجامعة، لم يحاول أيقاظ والدته لتعد له طعامالإفطار كما تفعل له كل يوم، اكتفى بالنظر أليها من طرف باب غرفة نومها، فوجدهانائمة، لم يكن يرغب أن تشعر بوجوده، ولم يكن يود إيقاظها او إزعاجها، اكتفى بالنظرأليها كأنه يودعها، ومن ثم انطلق مسرعا خارج المنزل، كعادته متوجها إلى جامعته.
الساعة تقترب من الثانية عشر والربع ظهراً من يوم الثلاثاء بتاريخ 28/3/2001م،جرس التلفون في المدرسة التي تعمل فيها السيدة يسرى الطويل ( والدته ) يرن، ترفعسماعة الهاتف مديرة المدرسة، يتحدث إليها شخص، بصوت خشن شبابي، ويتكلم بجدية وبهدوءتام، وبكلام مختصر، يطلب منها التحدث إلى المعلمة يسرى ( أم ضياء )، ( وكانت هذهالمحادثة القصيرة الأولى والأخيرة معها، حيث لم يسبق لهذا الشخص أن تحادث معهاهاتفيا من قبل، على هاتف هذه المدرسة، وفي مثل هذا الوقت، ولن يتحدث معها أيضاً مرةأخرى بعد الآن والى الأبد).
المديرة: آلو، مين، شو بتريد ؟الشاب: أريدالتحدث مع أم ضياء.
المديرة: من أنت حتى نقول لها ؟الشاب: ليس مهما أنتعرفي من أنا، المهم أن تقولي لها أن هناك شاب يود التحدث إليها.
المديرة: بصراحة يا أخ، أم ضياء لديها حصة الآن ولا نستطيع أن نحضرها لك.
الشاب: طيب،الرجاء أن تقولي لها أنني احتاج أليها لأمر هام جدا، و أن تقولي لها أن ابنها ضياءعلى الخط.
المديرة: إذا كان الأمر هام جدا، وأنت ابنها، لذا أرجو منكالانتظار.(بعد برهة من الوقت تحضر أم ضياء )
أم ضياء: الو … الو، مين على الخط،مين بتكلم ؟ضياء: السلام عليكم، مرحبة (ياما).
أم ضياء: وعليكم السلامومرحبتين، مين--- ضياء، وين أنت ؟ضياء: أنا في جامعة بيرزيت.
أم ضياء: خير،شو في يا ابني ؟ضياء: أنا بس بدي أطمئن عليك يا ( أما ).
أم ضياء: أنتتطمئن علينا! و إلا إحنا نطمئن عليك، هو مين لازم يتطمن على الثاني ؟ضياء: مهوأنا يا (أما) و الحمد الله، كل شيء عندي تمام وكويس، و نويت أتخصص هندسة كهربائية،بس أنا بدي أطلب رضاك علي (يا أما ) وان تغفري لي، وتسامحيني، وادعي لي يا ( أما ) بالتوفيق والنجاح،أم ضياء: شو عم بتقول يا ابني، (هذه مو عوايدك ) تقول مثلهذا الكلام، شو صاير عندكضياء: يا لله مع السلامة، أشوفك على خير، (ويغلق ضياءالسماعة فجأة، ودون سابق إنذار).
أم ضياء: تصرخ بصوت عالي: ضياء، ضياء…. لحظةشوية ….
وتضع أم ضياء سماعة الهاتف، والألم يعتصر قلبها كثيرا، وسر هذه المكالمةبينها وبين ابنها ضياء في هذا الوقت، يحيرها كثيرا، ويجعلها تفكر شمالا ويمينا،وتضع أمام عينيها كافة الاحتمالات، ويجعلها تسرح في خيالها كثيرا وبعيدا، إلااحتمال أن يقوم ولدها ضياء بعملية استشهادية، ويكون هذا هو آخر كلام لها مع ابنهاضياء، وآخر حديث لضياء مع أمه، وآخر همسات بينهما، يعتريها الغموض، و ما زال صوتهيدق في أذنها، إلى هذه اللحظة، التي ما زالت آثار الصدمة الأولى بادية على وجهها،عندما علمت مساء الأربعاء بتاريخ 28 /3/ 2001م أن ابنها ضياء هو ذاك ألاستشهادي،الذي فجر نفسه في الحافلة الصهيونية، بالتلة الفرنسية يوم الثلاثاء من الأسبوعالماضي.
لم تكن أم ضياء تعلم عند سماعها خبر العملية التفجيرية الاستشهادية فيقلب مدينة القدس المحتلة، أن ابنها وفلذة كبدها ( ضياء ) الذي لطالما حثته علىالاهتمام بدروسه وبجامعته وبنفسه، هو ذلك ألاستشهادي البطل الذي فجر نفسه بالحافلةالصهيونية، التي كانت تقل مجموعة من الصهاينة المجرمين. تفاجأت أم ضياء بالخبر، كأيأم تسمع بخبر استشهاد ولدها عبر شاشات التلفزة أو عبر المذياع، على الرغم من أنهافرحت وشعرت بسعادة غامرة، عندما علمت أن هناك عملية استشهادية قد تمت ضد الصهاينةالمجرمين.
تقول والدة ضياء عن فلذة كبدها:
" كان ضياء رحمه الله، مهتما جدابقضية أبناء شعبه الفلسطيني، وبقضية الوطن والاحتلال وبالأمور الدينية والوطنيةالأخرى، وكان يحب التعمق بالقضايا الدينية، حتى انه طرح علينا فكرة دراسته للشريعةالإسلامية، ولكنه عدل عن هذه الفكرة في آخر لحظة، لقد كان يقضي معظم وقته وهو صائم،و يحمل القرآن الكريم بين يديه، ويقرأ القرآن باطمئنان وسكينة، لقد كان القرآنالكريم رفيق دربه، حتى انه حفظ منه كثيرا من الصور والآيات القرآنية وبفترة قياسيةفقد حفظ عن ظهر قلب ستة أجزاء منه كاملة ".
لم تكن أم ضياء لتقلق كثيرا علىابنها عندما غاب عن البيت ليلة يوم الثلاثاء، لأنه كان قد أخبرها بنيته المبيت عندأحد زملائه في جامعة بير زيت، لانشغاله بإجراءات تتعلق بالجامعة، التي تأخذ منهوقتا طويلا وجهدا مضاعفا، خاصة أنه كان عليه أن يحدد المواضيع الدراسية التيسيدرسها في التخصص الجديد.
يواصل ضياء حديثه إلى أبناء شعبه، عبر شريط فيديومسجل قبل استشهاده فيقول فيه:
( أنا ثاني عشرة استشهاديين أعدتهم كتائب الشهيدعز الدين القسام، ليجعلوا من أجسامهم وعظامهم شظايا تذيق الموت للمحتلين الصهاينةالمغتصبين، ولنلحق بركب الشهداء، ركب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان اللهعليهم، وركب الشهيد عز الدين القسام ويحيي عياش وعوض الله، فإلى جنات الخلد ياأبناء القسام)
مسجد حمزة في منطقة البالوع في مدينة البيرة هو المكان الدافئوالمفضل الذي يحبه ضياء كثيرا، وكان يلجا إليه دائماً، ويحرص دوما على إقامة كلالصلوات فيه.
يتحدث أحد أصدقاء ضياء الذي كان يلتقيه تحت سقف مسجد حمزة عنهدوئه واتزانه، فيقول: ( بأن القرآن كان لا يفارقه، وكان دائم الحديث عن الجنةوالشهداء، وانه يحب مساعدة وخدمة الآخرين.)
وبتابع الصديق الحديث عن الفقيدالغالي فيقول: " أحياناً كنت أتوجه إلى المسجد قبل آذان الفجر بدقائق، فأجد ضياءوقد سبقني أليه، وهو يصلي قيام الليل بخشوع وطمأنينة، لقد كان أيمانه عاليا جداً،ودائما يتحدث بعاطفة قوية، وبكلمات مؤثرة، كنت أحاول حثه على الاهتمام بالدراسة قبلكل شيء، والموازنة بين الدين والحياة، والانتباه إلى نفسه. وبتابع حديثه فيقول “ اليوم أدركت أنني كنت في عالم آخر وأنا أحدثه، فضياء كان طائرا يحلق في السماءبعيدا، أحاكيه، فيستمع، ثم يبتسم وكأنه لا يعطي اهتماما كبيرا لما أقوله له. لم أكنأحس مطلقاً بهذا التغير الذي طرأ على حال ضياء. وللحقيقة أقول بأنني لم أكن أتوقعأن يكون ضياء أحد الاستشهاد يين، الذين هددت بهم حماس إسرائيل، إننا اليوم نحتسبهعند الله مع الشهداء والأنبياء فرحمة الله عليه ".
حسين الطويل والد الشهيد ضياءالذي يتمتع بجلد كبير ومعنويات عالية جدا وهو يستقبلنا ويتحدث إلينا عن شعورهالغامر، عندما علم بأن ضياء، فلذة كبده، هو الذي نفذ عملية التلة الفرنسيةالاستشهادية في القدس، كان شعوره مؤثرا ووطنيا وكبيرا جدا، كشعور أي فلسطيني يفتخربمثل هذه الأعمال البطولية، والتضحية العالية لشاب فلسطيني نذر روحه لوطنه فلسطين،ومع هذا تبقى عاطفة الابوه قائمة وقوية ولا يمكن تجاهلها و تطفو على السطح في حديثالوالد، والتي لا بد وان تضعف أمام ذكريات الأبناء وآمال الآباء، بان يرى ابنه وقدتحقق حلمه و أصبح مهندسا كبيرا.
ومضى أبو ضياء وقد أحاط به صحفي كندي ( وهومراسل لراديو كندا الرسمي )، الذي ظهر عليه الاستغراب والدهشة من موقف عائلة الشهيدضياء التي ما انفكت تتحدث وتأكد على أهمية المقاومة والتضحية والشهادة في سبيلالوطن ليقول:
" ابني ضياء ليس أول ولا آخر شهيد، كل يوم يسقط فيه عندنا شهداء “، ومع هذا يقول بأنه لم يتوقع في لحظة من اللحظات أن يكون ضياء هو منفذ عمليةالتلة الفرنسية.
بدأت ميول ضياء الإسلامية تنضح مع انتهاء دراسته الثانوية وتنامت وتعمقت معه بعد التحاقه بجامعة بيرزيت التي التحق بها بعد حصوله على شهادةالتوجيهي، وأصبح ضياء أحد أبرز نشطاء الكتلة الإسلامية في الجامعة، وكان قد التحقبركب حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وكان ضياء قد قرر خلال دراسته الهندسة فيجامعة بيرزيت التخصص في فرع ( هندسة الكهرباء ) قدوة بالشهيد المهندس يحيي عياش.
شارك الشهيد ضياء فور اندلاع انتفاضة الأقصى في فعالياتها بصورة دائمة، حيثأصيب عدة مرات بالعيارات المطاطية، وكان كلما أصيب يعاود الكرة مرة أخرى للمشاركة.
الكتلة الإسلامية الطلابية في الجامعة، التي طالما اخلص وتفانى ضياء في خدمتها،دعت بان تكرم فارسها الذي شهدت له ساحات الجامعة بالرجولة والشجاعة، بمشاركتهالفاعلة بالنشاطات والفعاليات، التي كانت تنظمها باستمرار، إذ امتلأت ساحات الجامعةباليافطات الكبيرة التي تحمل صورة الشهيد، وتليت آيات من القرآن الكريم في الجامعةمنذ ساعات الصباح الباكر. وقد أعلن مجلس طلبة الجامعة والذي ترأسه الكتلة الإسلاميةعن تعليق الدراسة لمدة ثلاثة أيام، وبدأت فعاليات الصباح بمسيرة حاشدة كبيرة شاركفيها كل طلبة الجامعة، تقدمها ملثمون من أبناء الكتلة الإسلامية والوطنية، يرفعونصور الشهيد والشهداء الآخرين من أبناء الكتلة الإسلامية و الوطنية في الجامعة.
ثم قام شاب برفع الآذان للصلاة، من نفس المكان الذي كان يؤذن فيه الشهيد ضياء،إذ حرص ضياء على اكتساب أجر الآذان وقتما تحين الصلاة وهو في الجامعة، واعتبر بحقمؤذن الكتلة الإسلامية التي ثبتت الآذان في الجامعة.
كلمة مؤثرة ومعبرة ألقاهاممثل الكتلة الإسلامية في التجمع الحاشد بدأها متسائلاً بقوله:
(أي موقف صعبوضعتني فيه يا ضياء، فأنا لا أستطيع أن أقف مثل هذا الموقف لأرثيك، عزاؤنا أنك الآنتوصل سلامنا إلى يحيي عياش وعبد المنعم أبو حميد وخليل الشريف، وتقول لهم أننابقينا على عهدنا لكم ولم نحنث بالعهد