بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بلغنا رمضان ، الذي أنزل فيه القرآن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
أما بعــــــــــــــد
اعلموا رحمكم الله أن شهر رمضان مضمار السابقين ، وغنيمةُ الصادقين ، فيه تُضاعفُ الأعمالُ وتحطُ الأوزارُ الثقال ، وفيه يُجابُ السؤال ، ويُغفَرُ للمستغفرِ ويُقالُ ، فهو غُرَّةُ الدُهُور ، ومصباح الشهور ، وربيعٌ للمؤمنِ يقتطفُ فيه الأُجُور ، وتُزينُ فيه الجنانُ والقصورُ ، فَجُدْ فيه بالطاعاتُ واهجُرِ الفتور .
شهرٌ اشتهرت بفضله الأخبار ، وتواترت فيه الآثار ، ففي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبواب الجنةِ وغُلِّقَت أبوابُ النار وصُفِّدت الشياطين ))
وإنما تُفَتَّحُ أبواب الجنة في هذا الشهرِ لكثرة الأعمال الصالحة وترغيباً للعاملين ، وتُغلَّقُ أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان ، وتُصفدُ الشياطين فَتُغَلُّ فلا يَخلُصونُ إلى ما يَخلُصون إليه في غيره .
رَوَى الإمامُ أحمد : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أُعطيت أُمتي خمسَ خِصال في رمضانَ لم تُعطهُنَّ أمةٌ من قبلها : خُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفرُ لهم الملائكة حتى يُفطروا ، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جنته ويقول : يُوشِك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصروا إليك ، وتُصفد الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيرهِ ، ويغفرُ لهم في آخر ليلة )) قيل يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القدر قال : لاَ ولكنَّ العاملَ إنما يُوفى أجره ، إذا قضى عَمَلَه ))
أيها الصائمون ..
اعلموا أن لشهر رمضان فضائل لا تحصى ، وكرامات لا تُستقصى ويكفي فيه شرفاً وفضلاً آياتٌ في محكم التنزيل ، تُقرَأُ وتتلى ، وأحاديث تروى .
فيا مُضيعَ الزمانِ فيما ينقص الإيَمانَ ما أراك في رمضان إلا كما في غيره من الزمان !
أما يسوقك إلى الخير ما يسوق ؟
أما يعُوقك عن الشرِّ ما يعوق ؟
متى تصيرُ سابقاً يا مسبوق ؟
إلى متى تُبادرُ سُوق الفسوق ؟
أولُ الهوى سهلٌ ثمَّ تنخرقُ الخروقُ فبادر ثم بادر ، فإن لذاتِ الدنيا كخطفِ البُرُوق .
وبلوغ رمضان نعمةٌ كبيرةٌ على من بَلَغْهُ وقام بحقه بالرجوع إلى ربه ، من معصيته إلى طاعته ، ومن الغفلةِ عنه إلى ذكره ، ومن البُعدِ عنهُ إلى الإنابة إليه .
يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ ... حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ
لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا ... فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً ... فَـإنه شِـهرُ تسبيـحٍ وقُـرْآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو ... حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
* كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبشرُ أصحابه بقُدومِ رمضان ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبشرُ أصحابه يقُولُ : (( قَدْ جَاءكم شهرُ رمضانَ ، شهرٌ مبارك ، كَتَبَ الله عليكم صِيَامَهُ ، فيه تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجِنَانِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجحيم ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهِا فَقَدْ حُرِمَ )) . رَوَاهُ الإمامُ أحمد وَالنَّسَائىُّ .
قالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا الحدِيثُ أصْلٌ في تَهْنِئَةِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِشَهْرِ رَمَضَانَ ، كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ المؤْمِنُ بِفَتْحِ أَبْوَابِ الجِنَانِ ؟ كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ المُذْنِبُ بِغَلْقِ أَبْوَابِ النِّيرَانِ ؟ كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ العَاقِلُ بِوَقْتٍ يُغَلُّ فِيهِ الشَّيْطَانُ ؟ مِنْ أَيْنَ يُشبِهُ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانٌ ؟ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : ( أَتاكُمْ رَمَضَانُ سَيِّدُ الشُّهُورِ فَمَرْحَباً بِهِ وَأَهْلاً . جَاءَ شَهْرُ الصِّيَامِ بِالبَرَكَاتِ ، فَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ زَائِرٍ هُوَ آتٍ ) .
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ ... لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنْ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قـَوْلاً وفـِعْلاً ... وَزَادَكَ فاتَّخِذْهُ لِلمَعادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا ... تَأَوَّهَ نادِماً يَوْمَ الحَصَادِ
يا مَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنَّا قَدْ قَرُبَتْ أَيَّامُ المُصَالَحَةِ ، يا مَنْ دَامَتْ خَسَارَتُهُ قَدْ أَقْبَلَتْ أَيامُ التِّجَارَةِ الرَّابِحةِ ، مَنْ لَمْ يَرْبَحْ في هَذَا الشَّهْرِ ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَرْبَحُ ، مَنْ لَمْ يَقْرُبْ فيهِ مِنْ مَولاَهُ ، فَهُوَ عَلَى بُعْدِهِ لاَ يَبْرَحُ ، مَنْ رُحِمَ في رَمَضَانَ فَهُوَ المَرْحُومُ ، وَمَنْ حُرِمَ خَيْرَهُ فَهُوَ المَحْرُومُ .
إِذَا رَمَضَانُ أَتَى مُقْبِلاً ... فَأَقْبِلْ فَبِالْخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ
لَعَلَّكَ تُخْطِئُهُ قابِلاً ... وَتَأْتِي بِعُذْرٍ فَلاَ يُقْبَلُ
كَمْ يُنادى: حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ وَأَنْتَ خَاسِرٌ ؟ كَمْ تُدْعَى إِلَى الصَّلاحِ وَأَنْتَ عَلَى الفسادِ مُثَابِرٌ ؟ كَمْ يُدْعَى أَهْلُ الاْجْتِهَادِ فَيُجِيبُونَ وَأَنْتَ عَنِ الإِجَابَةِ نافِرٌ ؟ كَمْ وَصَلَ الأَحْبَابُ إِلَى مَوْلاَهُمْ وَأَنْتَ بِقَدَمِ البِطَالَةِ عَاثِرٌ ؟ فَجِدَّ أَخِي ، هَذِهِ مَوَاسِمُ الخَيْرَاتِ فاغْتَنِمْهَا وَبَادِرْ ، وَهَذَا إِبَّانُ الزَّرْعِ فَهَلْ لِلخَيْرِ باذِرْ ؟
إِخْوَانِي:
أَيْنَ مَنْ كَانَ مَعَكُمْ العَامَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِ ، مِنَ النِّسَاءِ والرِّجَالِ ، يُنافِسُونَكُمْ فِي صَالِحِ الأَعمَالِ ، وَيُخَالِطُونَكُمْ في سَائِرِ الأَحْوَالِ ؟ أَمَا طَحَنَتْهُمْ رَحَى المَنُونِ وَلَمْ تَنْفَعِ الآمَالُ ، وَقُطِعَتْ مِنْهُمُ الأَعْمَارُ وَالآجَالُ ، وَخَلُّوا في ضَرَائِحِهِمْ بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الأَعْمَالِ ، وَأَخَذَهُمُ المَوتُ وَمَا دَفَعَ عَنْهُمُ المَالُ وَالعِيالُ ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ جَمِيعِ الأَفْعالِ ؟ وَها أَنْتُمْ لِطَرِيقِهِمْ سَالِكُونَ ، وَلِمَدَاخِلِهمْ دَاخِلُونَ ، وَعَلَى سَبِيِلِهِمْ مُتَّبِعُونَ ، فَبادِرُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَوْقاتَكُمْ قَبْلَ الاْرْتِحَالِ ، فَيَا سَعَادَةَ مَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ فِي شَهْرِهِ الأَعْمَالُ ، وَيَا شَقَاوَةَ مَنْ فَرَّطَ في صِيَامِهِ بِالإِهْمَالِ .
أخي الصائم :
هَاهِيَ مَوَاسمُ الخيرِ قَدْ دنَتْ ، وهَا أنْتَ مِنَ الذنوبِ اقترفتْ ، وَمِنَ المعاصي ارتكبتْ ، فَسَارعْ في فكاكِ نَفْسِكَ بالنَّدَم ، وَعُدْ إلى ربِكَ بالتَّوْبَةِ وَالحُزْنِ ، مُدَّ إِلَيْهِ يَدَ الاْعْتِذَارِ وَقُمْ عَلَى بابِهِ بِالذُّلِّ وَالاْنْكِسَارِ . وَارْفَعْ قِصَّةَ نَدَمِكَ مَرْمُوقَةً عَلَى صَحِيفَةِ خَدِّكَ بِمِدَادِ الدُّمُوعِ الغِزَارِ ، وَقُلْ : (( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ )) .
قِفْ عَلَى البَابِ بَاكِياً ، وَنَكِّسِ الرَّأْسَ بِالنَّدَمِ شَاكِياً ، وَأَلِحَّ عَلَى الْمَوْلَى العَظِيمِ دَاعِياً ، وَقُلْ بِلِسَانِ الاْعْتِذَارِ ، بِالنَّدَمِ عَلَى الذَُنُوبِ وَالأَوْزَارِ :
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً ... فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إنْ كانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَ مُحْسِنٌ ... فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو المُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعاً... فَـإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ ؟
ما لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الدُّعَاء ... وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ، ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لاَ تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ ، وَلاَ يَضُرُّهُ العِصيَانُ . يَا مَنْ غَمَرَ البَرِيَّةَ بِالْجُودِ وَالإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ وَالاْْمْتِنَانِ . نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنَا مِنْ عَبِيدِكَ المُفْلِحِينَ ، وَأَوْلِيائِكَ المُتَّقِينَ ، الَّذِينَ أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ ، وَنَعَّمْتَهُمْ بِأُنْسِكَ وَحَضْرَتِكَ . وَسَقَيْتَهُمْ لَذِيذَ شَرَابِكَ ، وَخَلَعْتَ عَلَيْهِمْ خِلَعَ أَحْبَابِكَ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المَقْبُولِينَ في هَذَا الشَّهْرِ الفَضِيلِ . وَخُصَّنَا فِيهِ بِالأَجْرِ الوَافِرِ وَالعَطَاءِ الجَزِيلِ . واغْفِرْ لَنَا فِيهِ كُلَّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ . وَخَفِّفْ ظُهُورَنَا مِنْ كُلِّ وِزْرٍ ثَقِيلٍ ، وَتَقَبَّلْ فِيهِ يَسِيرَ أَعْمَالِنَا فَإِنَّكَ تَقْبَلُ العَمَلَ القَلِيلَ .
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا يَسِيرَ الأَعْمَالِ ، وَهَبْ لَنَا إِسَاءَتَنَا في الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ . وَسَمِحْنَا عَنِ الغَفْلَةِ وَالإِهْمَالِ ، وَاغْفِرْ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ ، الأَحْيَاءِ وَالمَيِّتِينَ ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ، ووفقنا للتزودِ من التقوى قبل النُقلة ، وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين . وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
ولا تنسوا أخوكم من دعوة صادقة .